تخيل عالماً يمكن فيه التنبؤ بالكوارث قبل وقوعها بلحظات حاسمة، وتصل المساعدات الحيوية لمن هم في أمس الحاجة إليها بدقة متناهية وكفاءة غير مسبوقة، وتُدار الأزمات الإنسانية المعقدة بذكاء استراتيجي يقلل الخسائر ويحفظ الأرواح. هذا ليس مشهداً من فيلم خيال علمي، بل هو المستقبل الواعد الذي يسعى رواد العمل الإنساني وخبراء التكنولوجيا لتحقيقه عبر تسخير قوة الذكاء الاصطناعي في العمل الإنساني. لقد شهدت مدينة إسطنبول مؤخراً تجمعاً فريداً من نوعه، حيث التقت العقول من مختلف أنحاء العالم لاستكشاف كيف يمكن لهذه التقنية الثورية أن تعيد تشكيل مفهوم العطاء والمساعدة، وتفتح آفاقاً جديدة لخدمة البشرية في أوقات الشدة. فهل نحن على أعتاب عصر جديد تُدار فيه الأزمات بكود برمجي وتُعزز فيه الكرامة الإنسانية بخوارزميات ذكية؟ المؤتمر الأخير في إسطنبول يقدم لنا لمحة عن هذا المستقبل المثير للجدل والإمكانيات.
مؤتمر إسطنبول يرسم خارطة طريق مستقبلية
في خطوة هامة نحو استشراف مستقبل المساعدات، احتضنت مدينة إسطنبول التركية مؤتمراً دولياً بارزاً نظمته حاضنة الأعمال “ريفولف” (Revolve)، حاملاً شعار “الذكاء الاصطناعي في خدمة العمل الإنساني”. جمع هذا الحدث، الذي استمر ليومين، قرابة 200 خبير وممثل لمنظمات إنسانية ودولية، بالإضافة إلى أكاديميين وقادة رأي وتقنيين من 21 دولة مختلفة. كان الهدف الأسمى هو فتح حوار بناء وعميق حول الإمكانيات الهائلة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي في العمل الإنساني، وكيفية توظيف هذه التقنيات المتطورة لتسريع وتيرة التنمية المستدامة ومواجهة التحديات الإنسانية المتزايدة بفعالية أكبر. شهد المؤتمر نقاشات ثرية وجلسات عصف ذهني وورش عمل متخصصة، ركزت على استعراض الفرص الواعدة التي تقدمها الحلول الذكية، وفي الوقت نفسه، التحديات الأخلاقية والعملية التي يجب التعامل معها بحذر لضمان استخدام مسؤول لهذه الأدوات القوية. يمثل هذا المؤتمر نقطة التقاء حيوية بين قطاع التكنولوجيا المتقدمة والقطاع الإنساني الذي تشتد حاجته للابتكار لمواكبة حجم الأزمات العالمية وتعقيداتها، مؤكداً أن دمج التقنيات الذكية لم يعد خياراً بل ضرورة استراتيجية.
بين الفرص الواعدة والتحديات الأخلاقية
أكد المشاركون في مؤتمر إسطنبول على أن الذكاء الاصطناعي في العمل الإنساني يمثل سلاحاً ذا حدين؛ فهو يفتح أبواباً لفرص غير مسبوقة لتحسين الكفاءة والدقة في تقديم المساعدات، مثل تحليل كميات هائلة من البيانات لتحديد الاحتياجات بدقة أكبر، وتوجيه الموارد بشكل أمثل، والتنبؤ بالأزمات المحتملة كالجفاف أو الفيضانات أو حتى تفشي الأوبئة، مما يسمح بالتدخل المبكر والوقائي. كما يمكن للتقنيات الذكية أن تساهم في تحسين الخدمات اللوجستية وإدارة سلاسل الإمداد في المناطق المنكوبة، وتطوير أدوات تواصل فعالة مع المجتمعات المتضررة. ومع ذلك، لم يغفل المؤتمر عن التحديات الجوهرية والمخاوف المشروعة المصاحبة لهذه التقنية. فقد تم التشديد على أهمية معالجة القضايا الأخلاقية بجدية، مثل التحيز المحتمل في الخوارزميات الذي قد يؤدي إلى توزيع غير عادل للمساعدات، وضرورة ضمان شفافية عمليات صنع القرار القائمة على الذكاء الاصطناعي. كما برزت أهمية حماية أمن البيانات وخصوصية المستفيدين كأولوية قصوى، خاصة في سياقات النزاع والكوارث حيث تكون الفئات المستضعفة أكثر عرضة للاستغلال. إن تحقيق التوازن بين الاستفادة من إمكانيات التقنيات الذكية وضمان استخدامها بما يحترم المبادئ الإنسانية الأساسية كان محوراً رئيسياً في نقاشات المؤتمر.
توصيات إسطنبول: نحو دمج استراتيجي ومسؤول للذكاء الاصطناعي
انطلاقاً من النقاشات المعمقة والحوارات البناءة، أصدر مؤتمر “الذكاء الاصطناعي في خدمة العمل الإنساني” بياناً ختامياً تضمن مجموعة من التوصيات الاستراتيجية الهادفة إلى توجيه الاستخدام الأمثل لهذه التقنية الثورية. شددت التوصيات على ضرورة العمل الجاد لدمج الذكاء الاصطناعي في العمل الإنساني ضمن استراتيجيات العمل الشاملة للمنظمات، مع التأكيد على أن يكون هذا الدمج محكوماً بالمبادئ الإنسانية الأساسية وفي مقدمتها الحفاظ على كرامة الإنسان. ودعا البيان إلى تعزيز التنسيق المستمر والفعال بين الحكومات والمؤسسات الإنسانية والشركات المطورة للتكنولوجيا لوضع أطر تنظيمية وسياسات واضحة تضمن استخداماً أخلاقياً وآمناً للذكاء الاصطناعي. ومن أبرز ما دعت إليه التوصيات هو ضرورة تعزيز المعرفة والوعي بقدرات وحدود الذكاء الاصطناعي لدى العاملين في المجال الإنساني، وتطوير حلول ذكاء اصطناعي مصممة خصيصاً لتلبية الاحتياجات الفريدة لهذا القطاع بكفاءة عالية. كما تضمنت الدعوة إلى تحسين تصميم الأوامر والنماذج الذكية لرفع دقة وفعالية الأنظمة، وتسريع تنفيذ المشاريع التنموية والإنسانية باستخدام هذه التقنيات الواعدة.
تفعيل التوصيات: خطوات عملية لمستقبل إنساني أفضل
لم تقتصر مخرجات المؤتمر على تحديد المبادئ العامة، بل امتدت لتشمل خطوات عملية ومحددة لضمان تحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في العمل الإنساني. ركزت التوصيات بشكل كبير على الجانب التطبيقي، مثل تحسين جودة الخدمات الإنسانية المقدمة عبر تحليل البيانات الضخمة لاتخاذ قرارات أكثر استنارة ودقة. كما دعت إلى دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات الإدارية الداخلية للمنظمات لتعزيز الكفاءة التشغيلية وتحفيز الابتكار. ولم يغفل المؤتمر أهمية الإعلام الإنساني، حيث أوصى باستثمار الذكاء الاصطناعي في تطوير المحتوى الإعلامي وزيادة تأثيره للوصول إلى جمهور أوسع وحشد الدعم للقضايا الإنسانية. وشملت التوصيات كذلك استخدام أدوات التحليل الذكية لتحسين استراتيجيات التسويق وتنمية الموارد المالية للمنظمات غير الربحية. وأكد المؤتمر على أهمية تبادل الخبرات وأفضل الممارسات بين مختلف الجهات الفاعلة، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية بين المؤسسات الإنسانية وشركات التقنية لتطوير حلول مبتكرة ومتقدمة تلبي الاحتياجات المتغيرة على الأرض، بما في ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالكوارث وإدارة الأزمات بكفاءة أكبر، ودعم المتطوعين وإدارة الموارد البشرية بفعالية.
قائمة التوصيات الكاملة الصادرة عن المؤتمر:
- تعزيز المعرفة والتوعية الشاملة حول إمكانيات ومحددات الذكاء الاصطناعي لضمان الاستخدام الأمثل في سياقات العمل الإنساني المتنوعة.
- تطوير حلول ذكاء اصطناعي مبتكرة ومخصصة تلبي الاحتياجات المحددة للمؤسسات الإنسانية بكفاءة وفعالية عاليتين.
- تحسين تصميم الأوامر والنماذج الذكية (Prompt Engineering) لرفع مستوى دقة وفعالية وموثوقية الأنظمة الذكية المستخدمة.
- وضع سياسات وإرشادات واضحة وشاملة لمعالجة التحديات الأخلاقية المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي وضمان أمن البيانات وحماية خصوصية المستفيدين.
- تسريع وتيرة تنفيذ المشاريع التنموية والإغاثية من خلال الاستفادة من قدرات تقنيات الذكاء الاصطناعي في التخطيط والتنفيذ والمتابعة.
- تحسين جودة الخدمات الإنسانية المقدمة من خلال توظيف أدوات تحليل البيانات المتقدمة لاتخاذ قرارات أكثر استنارة ودقة ومبنية على الأدلة.
- دمج تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العمليات الإدارية والتشغيلية للمنظمات الإنسانية بهدف تعزيز الكفاءة وخفض التكاليف وتحفيز الابتكار.
- استثمار إمكانيات الذكاء الاصطناعي في تطوير آليات وأدوات الإعلام الإنساني لزيادة الوعي وتوسيع دائرة التأثير وحشد الدعم.
- تحسين استراتيجيات التسويق وتنمية الموارد المالية للمنظمات الإنسانية عبر استخدام أدوات التحليل والتنبؤ الذكية لفهم المتبرعين والشركاء بشكل أفضل.
- تشجيع تبادل الخبرات وأفضل الممارسات والتجارب الناجحة بين المنظمات لضمان تحقيق أقصى استفادة ممكنة من التطبيقات الذكية المتاحة.
- تعزيز الشراكات الاستراتيجية والتعاون الفعال بين المؤسسات الإنسانية وشركات التقنية والمراكز البحثية لتطوير حلول متقدمة ومستدامة.
- دعم استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال التنبؤ بالكوارث الطبيعية والأزمات الإنسانية وإدارتها بكفاءة وفعالية أكبر لإنقاذ الأرواح وتقليل الأضرار.
- تطوير أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة لمراقبة وتقييم أداء البرامج والمشاريع الإنسانية بشكل مستمر وتحسينها بناءً على البيانات والنتائج.
- تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في دعم وتمكين المتطوعين وتعزيز كفاءة إدارة الموارد البشرية في القطاع الإنساني.
- العمل الحثيث على استحداث وتطوير أطر تنظيمية وتشريعية وطنية ودولية لضبط وتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الإنساني.
- التواصل الفعال والمستمر مع الحكومات والهيئات الرسمية المعنية بهدف مأسسة استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات منظمات العمل الإنساني العاملة تحت إشرافها.


